الفرق بين المراجعتين لصفحة: «ابن الجوزي، عبدالرحمن بن علي»
(أنشأ الصفحة ب'{{صندوق معلومات شخص | العنوان = ابن الجوزي، عبدالرحمن بن علي | الصورة = NUR01804.jpg | حجم الصورة = | توضيح الصورة = | الاسم الكامل = أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن حمادي بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري البغدادي | الاسماء ا...') |
(لا فرق)
|
مراجعة ٠٦:٥٣، ١٠ أغسطس ٢٠٢٤
ابن الجوزي، أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن حمادي بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري البغدادي (حوالي 511-597 هـ / 1117-1201 م)، مؤرخ، واعظ، مفسر وفقيه حنبلي.
نسبه وشهرته
يعود نسب عبد الرحمن إلى محمد بن أبي بكر، الخليفة الأول. واشتهر باسم ابن الجوزي نسبة إلى جده الذي كان له ارتباط بـ"فرض الجوزة" في البصرة أو "محلة جوز" في غرب بغداد. وقد أطلق بعض الرواة على ابن الجوزي لقب "الصفّار" نسبة إلى اشتغال أسرته بتجارة النحاس.
مولده
وُلد عبد الرحمن في محلة درب حبيب (أو باب حبيب) في بغداد (ابن رجب، 1/400). وقد ذكر أن ولادته كانت بين عامي 508 و512 هـ . وقدم ابن رجب روايتين حول سنة ولادته نقلاً عن ابن الجوزي نفسه:
الأولى أنه كتب بخط يده قائلاً: "سنة ولادتي غير معروفة بدقة، ولكن أعلم أنني كنت في الثالثة من عمري تقريباً عندما توفي والدي في عام 514 هـ".
والثانية: "عندما توفي أستاذي ابن زاغوني في عام 527 هـ، كنت قد بلغت سن الرشد". وبهذا، تكون ولادته في عام 511 أو 512 هـ.
شخصيته وملامحه
وصف ابن الجوزي بأنه جميل المظهر، حسن الهيئة، ذو صوت ناعم وحركات رشيقة. ذكر في المصادر أن لحيته تساقطت نتيجة شرب البلاذر وأصبحت قصيرة جداً، وكان يصبغها حتى وفاته. بناءً على تجاربه من الطفولة، كان يؤمن بأن الطعام غير المناسب يؤدي إلى الضعف والمرض ويمنع الإنسان من العبادة والأعمال الخيرة. لذلك كان حريصاً جداً على صحته وكان يتناول ما يراه مفيداً لقوة العقل وحدّته.
كان يحب الطعام، وغالباً ما كانت وجباته تتكون من الدجاج والأطعمة الخفيفة، وكان يستبدل الفواكه بالشراب والمستحضرات، ولم يأكل ما كان مشتبهاً به. كان يرتدي أفضل الثياب وكان مولعاً بالكتب والدراسة، وكان يشعر كما لو وجد كنزاً عندما يطلع على كتاب جديد لم يره من قبل.
كان يتمتع بذوق سليم وقد تذوق حلاوة المناجاة. كان يصوم النهار ويقوم الليل بالعبادة، ويزور الصالحين في ظلمة الليل.
كانت دعاباته لطيفة وحلوة، وكان ذا ذهن وقّاد وحاضرة سريعة، حيث كان يرد بإجابات لطيفة وسريعة البديهة. فعندما سأله رجل: "هل التسبيح أفضل أم الاستغفار؟" أجاب قائلاً: "الثوب الوسخ يحتاج إلى الصابون أكثر من البخور."
وعندما سئل عن الغناء، أجاب: "أقسم بالله لَهُوَ لَهْوٌ."
أولاده
كان لابن الجوزي ثلاثة أبناء: أبو بكر عبد العزيز، أبو القاسم علي، وأبو محمد يوسف، وست بنات: رابعة (والدة يوسف بن قزاوغلي، المعروف بـ "سبط ابن الجوزي"، العالم الشهير ومؤلف "تذكرة الخواص")، شرف النساء، زينب، جوهرة، ست العلماء الكبرى، وست العلماء الصغرى. وقد سمع جميع هؤلاء البنات الأحاديث من والدهم ومن غيره.
تعليمه وأساتذته
قضى ابن الجوزي طفولته في راحة وصلاح وعفاف، تحت رعاية والدته وعمته. لم يكن يختلط بالآخرين ولم يلعب مع الأطفال. ذكر أن والدته لم تكن تهتم به كثيرًا. عهدت عمته بتعليمه إلى خاله، أبو الفضل محمد بن ناصر البغدادي.
يكتب في "المنتظم":
"تولى خالي أبو الفضل مسؤولية تعليمي الحديث، وسمعت منه مسند أحمد بن حنبل والكتب الأخرى المهمة، وحفظتها."
كما قال في قسم "المشيخة" (يبدو أنه من كتاب "المنتظم"):
"كان شيخنا ابن ناصر يأخذني إلى الشيوخ عندما كنت طفلًا، لأسمع الأحاديث ذات الأسانيد العالية، وكان يكتب جميع سماعاتي بخط يده ويأخذ لي الإجازات منهم. عندما فهمت معنى طلب العلم، اخترت أكثر الأساتذة علمًا وأفهم المحدثين للملازمة، وكنت أهتم بفضل الأساتذة وليس بعددهم."
بدأ ابن الجوزي دراسته في السنة الخامسة من عمره. يكتب في كتابه المسمّی بصيد الخاطر:
"كنت مولعًا بالعلم منذ الصغر، فأسرفت في تعلمه، ثم أصبحت أرغب في تعلم كل فنون العلوم، وسعيت جاهدًا لأتقن كل فن علمي."
يضيف أيضًا:
"كان تحمل الصعاب في سبيل اكتساب العلم حلاوة لروحي أحلى من العسل، ففي طفولتي كنت أتناول قرصًا من الخبز الجاف، وأخرج لأتعلم الحديث، وكنت أجلس بجانب نهر يُدعى "نهر عيسى"، ولا أستطيع أن آكل الخبز بدون ماء، لذا كنت أتناول قطعة خبز مع جرعة من الماء، فلم يكن همي شيئًا سوى لذة اكتساب العلم."
كان عاشقًا للقراءة، حيث يكتب:
"لا أشبع من القراءة. رأيت قائمة كتب المدرسة النظامية التي تبلغ أكثر من 6000 مجلد. كما رأيت قوائم كتب أبي حنيفة، والحميدي، والشيخ عبد الوهاب بن ناصر، وأبي محمد بن خشاب التي كانت تحمل على ظهور عدة بغال. لقد قرأت أكثر من 20000 مجلد ولازلت أسعى للتعلم."
ما ورد في "المشيخة" و "وفيات المنتظم" عن مشايخه وأساتذته يظهر صورة واضحة نسبيًا عن تعلماته، وبناءً على تواريخ وفاة أساتذته، يمكن معرفة أنه حضر في صغره وشبابه مجالس دروس العديد من أعلام العلم والأدب، واستلم منهم إجازات مكتوبة أو شفهية في العلوم الشائعة لتلك الفترة.
أبرز أساتذته
- أبو الفضل محمد بن ناصر بن علي بن عمر البغدادي (467-550 هـ ، المعروف بـالسلامي، الحافظ والأديب الذي كان مسؤولًا عن توجيهه الأول في العلم والأخلاق.
- أبو القاسم علي بن يَعْلَى العلوي الهروي، الذي كان أول مُعلم له في فن الخطابة، وكان من تشجيعه حين صعد إبن الجوزي إلى المنبر وهو في التاسعة من عمره.
- أبو السعادات أحمد بن أحمد... بن متوكل (ت. 521 هـ)، الذي علّمه الحديث وأعطاه إجازة بخطه، حيث أوصل نسبه إلى منصور الدوانيقي.
- فاطمة بنت حسين بن حسن بن فضلويه الرازي، التي قرأ عندها إبن الجوزي كتاب "ذم الغيبة" لإبراهيم الحربي بقراءةأستاذه، أبو الفضل محمد بن ناصر. كما تعلم عندها كتاب مجالس ( أو أمالي) ابن سمعون والمسند للشافعي وغيرها من الكتب. كانت فاطمة واعظة متدينة، وكان لها دور في تعليم النساء في رباطها. وتوفيت في عام 521 هـ، عندما كان إبن الجوزي يبلغ من العمر عشر سنوات.
- أبو عبدالله حسين بن محمد بن عبدالوهاب (ت. 524 هـ)، النحوي، اللغوي، والشاعر المعروف بـ "بارع"، الذي علمه الحديث وأعطاه إجازة كتابية.
- أبو نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي (ت. 525 هـ)، الذي علمه الحديث وأجاز له نقل جميع رواياته.
- أبو القاسم هبة الله بن محمد الشيباني الكاتب (ت. 525 هـ)، الذي علمه مسند أحمد بن حنبل و"الغيلانيات" و"أجزاء المزكى" بكاملها. وتعلم غير هذه الكتب منه (أي أبا القاسم هبة الله) بقراءة أستاذه وشیخه، أبي الفضل محمد بن الناصر، و کتبها بقلمه، كما كتب ابن الجوزي.
- أبو العز أحمد بن عبيد الله المعروف بابن كادش (ت. 526 هـ)، الذي أجاز له نقل ما سمعه منه.
- أبو الحسن علي بن عبيد الله الزاغوني (ت. 527 هـ)، المحدث، النحوي، اللغوي، الفقيه، والخطيب، الذي كان ابن الجوزي يتصاحب معه ويتعلم منه الحديث والفقه والوعظ.
- أبو بكر محمد بن عبد الله العامري (ت. 530 هـ)، المعروف بـ "ابن جنازه"، المحدث، الفقيه، والواعظ الصوفي، الذي علمه الحديث والتفسير.
- أبو القاسم نصر بن حسين المقري المعروف بابن حبار (ت. 531 هـ)، الذي علمه قراءات القرآن.
- أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد الدينوري (ت. 532 هـ)، الفقيه وألمحدث واستاذ المناظرة، الذي حضر ابن الجوزي لفترة في دروسه.
- أبو سعد إسماعيل بن أحمد المؤذن النيشابوري (ت. 532 هـ)، الفقيه الكبير الذي أجاز له نقل جميع رواياته.
- أبو المظفر عبدالمنعم بن عبدالكريم بن هوازن القشيري (ت. 532 هـ)، الذي أجاز له رواية الأحاديث.
- أبو القاسم زاهر بن طاهر الشحامي (ت. 533 هـ)، الذي الذي أجاز له رواية الأحاديث.
- شافع بن عبدالرشيد الجيلي (ت. 541 هـ)، الذي حضر ابن الجوزي في حلقة دروسه في طفولته وكان يكتسب علمه منه.
شيوخه في نقل الأحاديث
- أبو بكر وجيه بن طاهر النيشابوري؛
- أبو شجاع عمر بن أبي الحسن البسطامي (توفي عام 542 هـ) الذي علمه كتاب "شمائل النبي" لأبي عيسى الترمذي وغيره من الكتب.
- أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم عبد الله بن أبي سهل الكروخي (توفي عام 548 هـ)، الذي سمع ابن الجوزي "جامع الترمذي" و "مناقب أحمد بن حنبل" وغيرها من الكتب منه.
- أبو إسحاق أبو الوقت عبد الأول بن عيسى سجزي الهروي (توفي عام 553 هـ)، مدرس الحديث في "نظامية بغداد"، الذي روى لابن الجوزي "صحيح البخاري" على روايةال داودي، وكذلك "منتخب مسند عبد بن حميد".
- أبو حكيم إبراهيم بن دينار النهرواني (توفي عام 556 هـ)، عالم في المذهب والخلاف والفرائض، ومدرس في مدرسة ابن شمحل ومدرسة باب الأزج. يقول ابن الجوزي عنه: "لقد تعلمت القرآن والمذهب والفرائض عنه، وكنت مساعدًا له في التعليم في مدرسة ابن شمحل، وبعد وفاته سُلمت المدرسة لي وقمت بالتدريس فيها".
- أبو البركات سعد الله بن محمد بن علي بن الأحمدي (توفي عام 557 هـ)، الذي سمع ابن الجوزي كتاب "السنة" لللالكائي على رواية الطريثيئي منه.
- أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري؛
- أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي؛
- أبو نصر أحمد بن منصور بن أحمد؛
- الصوفي الهمداني؛
- حافظ أبو البركات عبد الوهاب بن مبارك الأنماطي؛
- أبو المعالي عبد الخالق بن أحمد بن عبد الصمد الشيباني، المعروف بابن البدن؛
- أبو الحسن محمد بن أحمد، المعروف بابن صرما؛
- أبو منصور محمد بن عبد الملك بن حسن بن إبراهيم بن خيرون المقري، آخر من حصل إجازة من الجوهري (صاحب الصحاح) للرواية؛
- أبو سعد أحمد بن محمد البغدادي الأصفهاني؛
- أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي (توفي عام 540 هـ)، مدرس الأدب في النظامية ببغداد، حيث تعلم ابن الجوزي عنده الحديث وغريب الحديث والأدب واللغة، وقرأ عليه كتاب "المعّرب" وغيره من تصانيفه.
في كتابه "المنتظم"، وخاصةً في أقسامه المتعلقة بالوَفَيَات (الجزء 9 والجزء 10)، ذكر ابن الجوزي أكثر من 70 من مشايخه. وفي كتابه "المشيخة" ذكر أيضًا 89 من أساتذته (الصفحات 197-202)، حيث منحه العديد منهم إجازة نقل الحديث عنهم.
ظروف فترة حياة ابن الجوزي
فترة حياة ابن الجوزي تزامنت مع خلافة ستة خلفاء من العباسيين: المسترشد (512 - 529 هـ)، الراشد (529 - 530 هـ)، المقتفي (530 - 555 هـ)، المستنجد (555 - 566 هـ)، المستضيء (566 - 575 هـ)، والناصر (575 - 622 هـ).
كانت بغداد خلال تلك الفترة، كما في المدن الأخرى وكما في العديد من الفترات الأخرى، مكانًا مضطربًا ومسرحًا لاصطدامات طائفية بين الفرق والمذاهب الفقهية والمتكلمين، حيث كانت هذه الاصطدامات تتجلى بأشكال مختلفة مثل المناظرات والجدل والنزاعات الشديدة.
خلال هذه الاشتباكات، كانت عمليات نقل السلطة بين خلفاء متلاحقين تتم عادةً من خلال عزل وتعيين وزراء، أو بظهور قادة مؤثرين، مما يسمح لفصيلة معينة أو مجموعة بالتفوق على الأخرى. كما كان من المألوف أحيانًا أن يؤثر بعض العلماء بفضل قدرتهم على التعبير أو بفضل شخصيتهم العلمية أو الدينية في توجيه خليفة أو وزير نحو مذهبهم، مما يساعد على سيطرة مجموعتهم وازدهار عقيدتهم الدينية، وفي نفس الوقت يبعدون المعارضين ويعزلونهم عن الساحة السياسية.
ابن الجوزي في "صيد الخاطر" يقدم صورة كهذه عن زمانه:
"احذر هذا الزمان وأهله بشدة، فقد ولت أيام الخير والإيثار. لا يوجد من يفكر في الناس، ولا من يقوم لمساعدة المحتاجين. المساعدات إما تأدية لنذر أو مصحوبة بالاستخفاف."
وفي موضع آخر، يكتب أن معظم رجال الدولة ينفذون أوامر الحكام الظالمة خشية عزلهم من مناصبهم الحالية. رأيت كثيرين ممن لا يبخلون ببذل المال للحصول على منصب القاضي أو الشهادة، وهدفهم من ذلك هو الطموح. يشهدون زورًا على ما لا يعرفون، أحيانًا مقابل مبلغ زهيد وأحيانًا خوفًا من أصحاب السلطة.
ابن الجوزي عن المدارس يقول:
"تأسيس المدارس في زماننا محفوف بالمخاطر، حيث يستوطن فيها عدد كبير من المتفقهين لتعلم علم الجدل، ويعرضون عن علوم الشريعة، ويبتعدون عن المساجد، ويكتفون بالمدرسة والألقاب."
وعن الرباطات (الخانات) والخانقاهات يكتب:
"هي خالية من أي فائدة، لأن الصوفيين ينشرون فيها الجهل والكسل، ويرددون أصوات المحبة والقرب الزائفين، ويتجنبون الاشتغال بالتعلم، ويهجرون سيرة العرفاء الحقيقيين مثل السري السقطي (ت 251هـ) والجنيد البغدادي (ت 297هـ)."
ابن الجوزي يصف زمانه بأنه عصر الرياء والسعي وراء الشهرة وخداع العامة وتربية المريدين (تربية التلاميذ المطيعين طاعة عمياء)، ويكتب:
"نرى أشخاصًا يرتدون زي الزهاد يأكلون أفضل الأطعمة، يصادقون الأغنياء، يبتعدون عن الفقراء، لا يذهبون إلى أي مكان بدون حجابهم وخدمهم، يتكبرون على الناس، يستمتعون بأن يُنادوا بمولانا، ويضيعون وقتهم في التفاهات."
ويضيف:
"أغلب السلاطين يجمعون الأموال بطرق غير مشروعة وينفقونها في غير محلها، كأن تلك الأموال ليست من عند الله بل من ممتلكاتهم الخاصة. أما العلماء، فإما يرافقونهم بسبب الفقر أو خوفًا على أسمائهم وأرواحهم."
النقطة المثيرة للتأمل في عصر ابن الجوزي (القرن السادس للهجري) هي الصمت النسبي الظاهر من قبل جهاز الخلافة وكبار بغداد تجاه أحد أكبر الأحداث في تاريخ العالم، وهي الحروب الصليبية (490-690هـ / 1094-1291م) التي دارت بين المسلمين والمسيحيين، وبمعنى آخر بين الشرق والغرب، واستمرت قرابة 200 عام. ابن الجوزي، بصفته عالمًا مسلمًا ومؤرخًا لعصره، كان تقريبًا معاصرًا وشاهدًا على مرحلتين من هذه الحروب.:
فترة فتوحات الصليبيين، التي تم فيها السيطرة على جزء كبير من الشام (سوريا) وتشكيل الإمارات اللاتينية في مدن القدس، أنطاكية، طرابلس، والرها (أورفا)،
وفترة رد فعل المسلمين على الصليبيين بقيادة قادة شجعان من المجتمع الإسلامي مثل: عماد الدين الزنكي، نور الدين الزنكي، ومن ثم صلاح الدين الأيوبي، واستعادة القدس والمدن الهامة الأخرى التي تحققت بشكل شبه ذاتي ومن دون ارتباط مباشر مع مركز الخلافة.
الخلفاء العباسيون الضعفاء، والأمراء والوزراء الطامحون، والعلماء الغافلون في بغداد كانوا منشغلين باللعب السياسي، والصراعات الفردية والسعي وراء السلطة، والمنازعات الكلامية والخلافات المذهبية إلى درجة أنهم لم يتخذوا أي إجراء لتحفيز المسلمين أو إرسال قوات لمواجهة الصليبيين. حتى النداءات المتكررة للمجموعات من الناس المتضررين من الحرب في الشام، الذين لجأوا إلى بغداد، لم تلقَ أي استجابة.
في مؤلفات ابن الجوزي، وكما هو متوقع، لا نجد أي إشارة إلى تعاطف أو قلقه تجاه هذا الصدام الكبير. حتى في "المنتظم"، أكبر مؤلفاته التاريخية، لا نجد سوى أخبار قصيرة عن هذه المعارك، تأتي أحيانًا من بين أحداث كل عام، ولا نجد شيئًا يستحق الذكر.
حياته الاجتماعية والثقافية
يمكن القول إن الحياة الاجتماعية والثقافية لابن الجوزي بدأت مع أول مجالس وعظه، وأكثر ما يشتهر به هو هذا الجانب من حياته الذي انعكس في مؤلفاته وفي كتابات الآخرين حتى نهاية حياته.
خطابته ووعظه
لأول مرة في عام 520هـ، حين كان لا يزال طفلًا في التاسعة من عمره، صعد إلى المنبر. يكتب بنفسه:
"أخذوني إلى أبو القاسم علي بن يعلى العلوي الهروي. علمني بعض كلمات الوعظ ولبسني قميصًا. وعندما جلس لتوديع أهل بغداد في رباط قرب أسوار المدينة، أرسلني إلى المنبر. قلت في الجمع الذي بلغ عدد أفراده نحو خمسين ألفًا ما تعلمته منه."
ابن الجوزي اكتسب شهرة واسعة خلال وزارة ابن هبيرة (544 - 560هـ) من خلال خطبه التي كان يلقيها كل جمعة في منزله. كانت المحاور الرئيسية لمحتوى خطبه هي: إحياء قوة الخلافة، الدفاع الشديد عن السنة، رفض البدعة ومعارضة أهل البدعة، الثناء على الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه، وتوبيخ مخالفيهم.
كان الخلفاء، الوزراء، العلماء، وكبار الشخصيات يحضرون مجالس وعظ ابن الجوزي. في "المنتظم"، يشير ابن الجوزي إلى بعض هذه المجالس. مثلاً، يكتب:
"بعد وفاة المقتفي وفي بداية خلافة المستنجد (ربيع الأول 555هـ)، انعقد مجلس للحداد لمدة ثلاثة أيام في بيت النوبة، وألقيت فيه خطابًا... في نهاية شهر حداد والده، منح المستنجد إياي وجماعة من رجال الدولة والعلماء خلعة، وأذن لي بأن أخطب في جامع القصر. بدأت في الوعظ في هذا الجامع من 28 ربيع الثاني، وكان يحضر هذا المجلس باستمرار ما بين 10 إلى 15 ألف شخص."
في فترة خلافة المستضيء (566 - 575هـ)، بلغ ابن الجوزي ذروة شهرته، حتى أنه أصبح يُعرف كأعظم واعظ للحنابلة. في 21 جمادى الأولى 574هـ، أمر الخليفة ببناء منصة في جامع القصر لجلوس الشيخ أبي الفتح بن منير الفقيه الحنبلي وإلقاء الخطب.
وفي جمادى الآخرة من نفس السنة، أمر الخليفة بإعادة بناء قبر أحمد بن حنبل. أصيب أتباع المذاهب الأخرى بالاستياء الشديد من هذه الأعمال التي كانت تُنفذ لصالح الحنابلة، والتي لم تكن معتادة من قبل. يقول ابن الجوزي:
"كان الناس يقولون لي: ميل الخليفة نحو الحنابلة هو بسببك وبفعل تأثير كلماتك... وأنا أشكر الله على ذلك."
في عام 527هـ، توفي أستاذه أبو الحسن بن الزاغوني، الذي كان لديه مجلس درس ووعظ ومناظرة في جامع منصور، بالقرب من قبر معروف، في باب البصرة، وكذلك في مسجد ابن فاعوس. تولى أبو علي بن الراذاني مكانه في هذا المجلس، ولكن بسبب صغر سن ابن الجوزي، لم يُسند إليه هذا المنصب. فلجأ إلى الوزير أنوشروان وألقى فصلًا في المواعظ، وبذلك حصل على الإذن للوعظ في جامع منصور. يقول ابن الجوزي:
"في أول يوم لمجلسي، حضر جميع فقهاء مذهبنا الكبار، مثل عبد الواحد بن شنيف، وأبو علي بن القاضي، وأبو بكر بن عيسى، وابن قسامي وغيرهم. ثم ألقيت خطبتي في المسجد بالقرب من قبر معروف (؟)، وباب البصرة، ونهر المعلى. استمرت هذه المجالس وحظيت بترحيب كبير."
في تقريره عن "مجالس العلم والوعظ" من بغداد (580هـ)، يصف ابن جبير بتقدير مبالغ فيه شخصية ابن الجوزي العلمية والأدبية والدينية، ويقدم صورة واضحة عن إحدى مجالس وعظه:
"في صباح يوم السبت، حضرت مجلس الشيخ الفقيه... ابن الجوزي الذي كان يُعقد أمام منزله على الضفة الشرقية من دجلة. بعد جلوسه على المنبر وقبل بدء الخطبة، تلا حوالي عشرين قارئًا آيات من القرآن الكريم بتنسيق وترتيب خاص. ثم شرع في الخطبة، وفي بداية كل جزء من حديثه كان يقرأ بداية الآيات التي تم تلاوتها، وفي نهاية كل جزء كان يختتم بنهايات تلك الآيات كأنها قافية، وفي الوقت نفسه كان يحافظ على ترتيب الآيات."
"كان كلامه يسحر القلوب ويرتفع بها إلى السماوات، ويجعل الأرواح تتوق حتى ترتفع أصوات النحيب وتصرخ المذنبون بالتوبة والاستغاثة، وكأنهم فراشات تقفز إلى لهب الشموع، يتساقطون عند قدميه... وتفقد مجموعة من الناس وعيهم... ثم بدأت المسائل تُطرح، وتدفقت أوراق الأسئلة من كل جانب نحو المجلس. وكان يجيب عليها بسرعة، وكانت أبرز فائدة من مجالسه هي هذا الرد السريع على الأسئلة."
ابن جبير يذكر عن مجلسين آخرين له في نفس السنة: أحدهما في فجر يوم الخميس 11 صفر في ساحة من قصور الخليفة، والآخر في يوم السبت 13 صفر في نفس المكان. ويشير في تقريره عن المجلس الأول إلى أنه:
"في هذا المجلس، بجانب عموم الناس، حضر الخليفة ووالدته وبعض الأفراد من حريمه."
ابن الجوزي يشير عدة مرات في "المنتظم" إلى مجالسه واستقبال الناس لها. على سبيل المثال، يكتب:
"بتوجيه من الخليفة، عُقد مجلس في "باب بدر" يوم الخميس 5 رجب 570 هـ بعد صلاة العصر. بدأ الناس من فجر ذلك اليوم في حجز أماكنهم، حيث تم تأجير كل صفّة (أو منصّة) مخصص لـ18 شخصًا بمقدار 18 قيراطًا. وفي النهاية، وصل الأمر إلى أن البعض كان مستعدًا لدفع 6 قراريط للجلوس بجانب هؤلاء الـ18 شخصًا."
في موضع آخر، يقول:
"في يوم عاشوراء 571هـ، بناءً على أمر الخليفة، أقيم مجلس في حضوره. بدأ الناس التوافد إلى "باب بدر" منذ منتصف الليل لسماع خطبي. كان الازدحام شديدًا لدرجة أن الأبواب أُغلقت، واضطر عدد كبير من الناس إلى الوقوف في الطرق المتصلة بهذا المكان."
وفي مكان آخر، يذكر أنه في 11 رمضان 572هـ، جلس للوعظ في منزل ظهیرالدین صاحبُ المخزن. كان الخليفة حاضرًا، وسُمح أيضًا للناس العاديين بالدخول. وفي هذا المجلس، تحدثت بكلمات أدهشت الجميع، حتى أن ظهیرالدین قال لي إن الخليفة قال له: "هذا الرجل يتحدث وكأنه ليس من البشر."
ابن الجوزي يشير في كثير من المواضع إلى مجالس أخرى له حضرها الخليفة والوزراء ورجال الدولة والعلماء والفقهاء والقضاة والشيوخ وكبار الشخصيات وطبقات أخرى من الناس. وقد قيل إن عدد الحضور في هذه المجالس كان يصل أحيانًا إلى مئة ألف شخص.
في هذه المجالس، كان كثير من الناس يتوبون نتيجة للتوجيه، وكان البعض الآخر يزيلون شعورهم من شدة التأثير. ووفقًا لما قاله ابن الجوزي نفسه، فإن أكثر من مئة ألف شخص تابوا على يديه، وأكثر من مئة ألف آخرين اعتنقوا الإسلام بفضل دعوته. ولكن حفيده (سبط ابن الجوزي) يذكر:
"أسلم على يديه ألف يهودي ومسيحي."
وذكروا أن المستضيء كان يحضر دائمًا، حتى أثناء مرضه، مجالس الوعظ التي كان يقيمها ابن الجوزي.
من الأعمال غير المسبوقة لابن الجوزي هو قيامه بتفسير القرآن من على المنبر. يقول بنفسه:
"في 17 جمادى الأولى سنة 570 هـ، أكملت تفسير القرآن على المنبر. ثم سجدت شكرًا في نفس المكان، وقلت: منذ نزول القرآن إلى الآن، لا أعرف واعظًا فسر جميع القرآن في مجلس وعظ."
كان ابن الجوزي يخطب ويعظ في المجالس التي كان الخليفة حاضرًا فيها. كما ذكر في "المنتظم"، فقد قال للخليفة في أحد المجالس:
"يا أمير المؤمنين! إذا تحدثت عنك، أخاف منك، وإذا سكت، أخاف عليك، ولكن من محبتي لك أضع خوفك فوق خوفي منك."
تدريسه وتلاميذه
إلى جانب خطابه ووعظه، كان التدريس جزءًا مهمًا من الحياة الاجتماعية لابن الجوزي. كان أستاذًا كبيرًا ومدرسًا بارعًا، كما يقول هو نفسه أنه كان يدرّس في خمس مدارس، لكن المصادر تشير إلى أربع مدارس محددة:
- مدرسة ابن شمحل: قام ابن شمحل ببناء هذه المدرسة في مأمونية، وكان ابن الجوزي لفترة من الزمن معيدًا فيها (أي كان مساعدا للأستاذ في تدريسه) تحت إشراف أبي حكيم النهرواني. ثم تولى ابن الجوزي إدارة المدرسة وبدأ فيها بالتدريس.
- مدرسة بنفشه: كانت هذه المدرسة في منزل نظام الدين أبو نصر بن جهير. اشترى "بنفش" المنزل وحوّله إلى مدرسة وعيّن أبو جعفر الصباغ مسؤولًا عنها. ظل مفتاح المدرسة في حوزة أبو جعفر لفترة، ثم استعيد منه وسلم إلى ابن الجوزي دون طلب منه. وفقًا لما يذكره ابن الجوزي، كانت هذه المدرسة وقفًا على أتباع أحمد بن حنبل حسب الوقفية الخاصة بها. بدأ ابن الجوزي دروسه في هذه المدرسة من 25 شعبان 570هـ، بحضور قاضي القضاة، حاجب الباب، وفقهاء بغداد.
- مدرسة شيخ عبدالقادر: كانت هذه المدرسة تحت إدارة عبدالسلام بن عبدالوهاب بن عبدالقادر الجيلي حتى فترة وزارة ابن يونس الحنبلي (583-584هـ). في تلك السنة، بعد اتهامه وحرق كتبه، استُعيدت المدرسة من يده وسُلّمت إلى ابن الجوزي.
- مدرسة درب دينار: قام ابن الجوزي ببناء هذه المدرسة في درب دينار ووقف عليها كتبه. يقول بنفسه: "في 3 محرم 570 هـ، بدأت العمل في هذه المدرسة، وفي ذلك اليوم قمت بتدريس 14 موضوعًا في مجالات علمية مختلفة."
استفاد عدد كبير من ابن الجوزي في مختلف المجالات العلمية، وقرأوا العديد من الكتب على يديه، من بينهم: طلحة العلثي وأبو عبدالله بن تيمية، خطيب حران الذي قرأ كتابه "زاد المسير" في التفسير عنده.
سمع العديد من الأئمة والحفاظ والفقهاء وغيرهم الأحاديث من ابن الجوزي وقرأوا مؤلفاته عليه.
قام بالرواية عن ابن الجوزي مجموعة من الأشخاص، منهم: ابنه، صاحب علامة محيي الدين يوسف، أستاذ دار المستعصم؛ وابنه الآخر، علي ناسخ؛ وحفيده، أبو المظفر شمس الدين يوسف بن قزاوغلي (المعروف بسبط ابن الجوزي)؛ وشيخ موفق الدين ابن قدامة؛ والحافظ عبد الغني؛ وابن الدبيثي؛ وابن القطيعي؛ وابن النجار؛ وضياء؛ ويلداني؛ وابن خليل؛ وابن عبد الدائم؛ ونجيب عبد اللطيف الحرانى، الذي كان آخر تلاميذه في سماع الحديث.
مجموعة أخرى حصلت على إجازة الرواية منه، ومنهم: ابن جبير الأندلسي؛ وزكي الدين عبد العظيم المنذري؛ وصائن الدين محمد بن أنجب نُعال البغدادي؛ وناصح الدين بن حنبلي الواعظ؛ وشيخ شمس الدين عبد الرحمن؛ وأحمد بن أبي الخير؛ وخضر بن حمويه؛ وقطب بن عصرون؛ والفخر علي بن البخاري، الذي كان آخرهم.
نزاعاته الدينية والسياسية
لم يشارك ابن الجوزي في أي نشاط سوی الوعظ والتدريس والمشاركة أحيانًا في مناظرات علماء المذاهب المختلفة والتأليفات التي كانت تشغل معظم وقته، بل وحتى لم يغادر بغداد سوى لأداء فريضة الحج. رغم أن الخلفاء وأصحاب السلطة كانوا يكرمونه، إلا أنه لم يتولَّ أي منصب رسمي أو سياسي، وعلى الرغم من انتقاده المتكرر في "صيد الخاطر" وأعماله الأخرى مثل "تلبيس إبليس" لارتباط العلماء بالحكام، يظهر من كتابه "المنتظم" أنه كان على اتصال دائم بالخلفاء والوزراء وأصحاب السلطة!
في حالتين، كما يقول هو نفسه، أسند الخليفة إليه مسؤوليات: أولاً، في عام 569 هـ، عندما تم منع جميع الوعاظ من إقامة المجالس باستثناء ثلاثة منهم، تم تعيينه كخطبيب حنبلي واحد في بغداد. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار هذا المنصب رسميًا أو حكوميًا، حيث كان مصدره بالأساس قبولاً عامًا بين أتباع مذهبه.
حالة أخرى هي أنه في عام 571 هـ، بناءً على اقتراح صاحب المخزن وقرار الخليفة، تم اختياره كمسؤول عن مكافحة البدع (ومعاقبة الهراطقة). يبدو أن هذا المنصب كان له طابع ديني أكثر من كونه حكوميًا، ونظرًا للتعصب الذي كان يظهره ابن الجوزي تجاه أهل البدع، والذي يتجلى في أعماله مثل "تلبيس إبليس" و"صيد الخاطر"، فمن المحتمل أنه كان يعتبر نفسه مكلفًا شرعًا بقبول هذا المنصب.
تسببت نزاعات ابن الجوزي ومبارزاته في خطبه ودروسه مع الفرق والجماعات التي كان يعتبرها من أهل البدع، بالإضافة إلى الإجراءات الصارمة التي اتخذها كمسؤول عن مكافحة البدع، في وقوعه في مشاكل خلال السنوات الأخيرة من حياته.
فيما يتعلق بسبب مشاكله، يقال إن ابن يونس الحنبلي، الذي كان وزيرًا للناصر في عام 583 هـ، ربما بناءً على إشارة من ابن الجوزي ومع حضوره، عقد مجلسًا ضد عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي، وأمر فيه بحرق مكتبته بسبب احتوائها على كتب تتعلق بالزندقة وعلم النجوم، واسترداد مدرسة جده منه وتسليمها إلى ابن الجوزي.
في عام 590 هـ، عين الناصر وزيره أبو المظفر مؤيد الدين محمد بن أحمد المعروف بابن قصاب، الذي كان شيعيًا. قام ابن قصاب باعتقال ابن يونس الحنبلي وملاحقة أتباعه.
قدّم عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الجوزي باعتباره ناصبيًا من أتباع أبي بكر ومن أبرز مؤيدي ابن يونس إلى ابن قصاب، وأشار إلى أن مدرسة جده قد سُلبت منه وسلمت إلى ابن الجوزي، وأن مكتبته قد أحرقت بناءً على مشورة ابن الجوزي.
عرض ابن قصاب هذه القضية على الناصر، الذي كان يميل إلى الشيعة ولم يكن على وئام مع ابن الجوزي، وكان الأخير يوجه له أحيانًا الانتقادات في مجالسه. فأصدر الخليفة أمرًا بتسليم ابن الجوزي إلى عبد السلام. جاء عبد السلام إلى منزل ابن الجوزي، شتمه وعامله بخشونة، وفرض الحراسة على منزله ومكتبته، وقام بتشريد عائلته.
ابن الجوزي تم القبض عليه ونُقل بواسطة سفينة [عبر نهر دجلة] إلى مدينة "واسط"، حيث تم سجنه في منزل بحي "درب الديوان"، وتم تعيين شخص لخدمته وحراسته. في تلك الفترة كان هناك من يذهبون إليه ليستمعوا إلى أحاديثه، وكان هو يرسل العديد من الأشعار إلى بغداد من هناك، وبهذا قضى خمس سنوات في السجن.
يضيف ابن رجب: عندما كان يبلغ من العمر ثمانين عامًا، كان يدير كل شؤونه بنفسه: يغسل ملابسه، ويطهو الطعام، ويستخرج الماء من البئر. لم يُسمح له بالخروج من المنزل للاستحمام أو لأي سبب آخر.
نُقل عن ابن الجوزي أنه قال: "في تلك الفترة، كنت أختم القرآن مرة واحدة كل يوم، وبسبب حزني لفراق ابني يوسف، كنت أمتنع عن قراءة سورة يوسف."
في عام 595 هـجري، تم الإفراج عن ابن الجوزي وعاد إلى بغداد. استقبلته جموع غفيرة بفرح. صلى يوم الجمعة مع الناس، وفي يوم السبت شارك في مجلس وعظ حضره المدرسون والصوفيون وشيوخ الرباطات. كان عدد الحضور كبيرًا لدرجة أن صوته لم يصل إلى نهاية المجلس.
فيما يتعلق بكيفية تحريره من السجن، يقال إن ابنه محيي الدين يوسف، الذي كان مشغولًا بالخطابة، طلب المساعدة من أم الخليفة، التي كانت تعطف على ابن الجوزي. وقد طلبت من ابنها الناصر أن يعيد الشيخ إلى بغداد. وهكذا، عاد ابن الجوزي إلى بغداد، حيث استمر في الوعظ والتدريس والتأليف حتى وفاته.
عقائده وآراؤه
ابن الجوزي، رغم كونه شخصية بارزة في المذهب الحنبلي في عصره، حيث كان معاصروه يرون أن قوة ونفوذ المذهب الحنبلي قد ازدادا بفضل جهاده وشخصيته العلمية، فإن بعض كبار الحنابلة بعده، مثل الشيخ موفق الدين المقدسي، أعربوا عن عدم رضاهم عن مؤلفاته في السنة وعن طريقته في اتباع السنة.
ابن القادسي، بعد أن أثنى على زهد وعبادة ابن الجوزي، كتب:
"بعض مشايخ أئمة مذهبنا لم يكونوا راضين عنه، لأن أقواله كانت تتضمن ميلاً للتأويل. يبدو أن بعض ما قاله في مجالس الوعظ وبعض أعماله أثار عدم رضا أقرانه من المذهب."
كما كتب سبط ابن الجوزي:
"في يوم من الأيام، كان جدي أبو الفرج على المنبر بحضور الخليفة الناصر وعلماء بغداد الكبار، ولعن يزيد، فقام بعض الناس وتركوا المجلس."
ويشير سبط ابن الجوزي أيضاً إلى أن جده في كتابه "الرد على المعتصم العنيد المانع من ذم يزيد" قال: "جاء في الحديث أن من ارتكب واحد بالمئة من أعمال يزيد ملعون،" ويذكر الأحاديث التي أوردها البخاري ومسلم في صحيحيهما.
ويقال أيضاً إنه كان متأثراً بالخطيب البغدادي في تعصبه وهجومه على الآخرين، وقد أعرب سبطه في "مرآة الزمان" عن استغرابه من هذا التأثير.
تشيع ابن الجوزي
إن إشادة ابن الجوزي بأهل البيت، مثل ذكر فضائل علي (ع) وفاطمة (ع) وذكر روايات في مدح الإمام حسين (ع) ونقل حديث عن بعض الأئمة المعصومين، قد دفعت بعض كبار الشيعة إلى الحديث عن تشيع ابن الجوزي. يقول الخوانساري: "ليس بعيداً أن يكون ابن الجوزي شيعياً، وأنه كان يتظاهر بالسنّة لأسباب تتعلق بالمصلحة." ثم يورد دلائل على رأيه: 1. لقد نقل ابن الجوزي على المنبر حديث "رد الشمس" في شأن علي (ع). 2. كما نقلت الجماهير من العلماء، أنه ذات يوم، في حضور أتباع المذهبين (الشيعة والسنة)، سُئل عن أيهما أفضل، أبو بكر أم علي (ع)؟ فأجاب: "من كانت ابنته في بيته". وفي كتاب الرجال للمحدث النيشابوري، جاء أنه سُئل عن عدد الأئمة، فأجاب: "أربعة أربعة أربعة".
كما ذكر غالبية العلماء، سُئل ابن الجوزي في حضور أتباع كلا المدرستين (الشيعة والسنة) عما إذا كان أبو بكر أو علي (عليه السلام) هو الأفضل. فأجاب: "من كانت ابنته في بيته".
[هذا يعني بالنسبة للسني أن من تكون ابنته (ابنة أبي بكر وهي عائشة) في بيته (بيت النبي) هو الأفضل. ويعني بالنسبة للشيعي أن من تكون ابنته (ابنة النبي و هي فاطمة) في بيته (بيت علي) هو الأفضل.]
كذلك، في روايات علماء الحديث في نيشابور، يُذكر أنه سُئل عن عدد الأئمة، فأجاب: "أربعة، أربعة، أربعة". [وهذا يدل للسنة على "الأربعة الخلفاء" بالتأكيد، ويدل للشيعة على "الأئمة الاثني عشر"، نتيجة ضرب الأربعة في ثلاثة مما يجعل العدد اثني عشر.]
3. سُئل كيف يُنسب قتل الإمام حسين (ع) إلى يزيد، بينما كان يزيد في الشام والإمام في العراق؟ فأجاب بقراءة هذا البيت من شعر الشريف الرضى: "سهم أصاب وراميه بذي سلم
من بالعراق لقد أبعدت مرماك."
ولكن، بناءً على النقاط التالية، فإن قبول تشيع ابن الجوزي ليس دقيقًا:
1. ما يورده الخوانساري حول حديث "رد الشمس" يتعارض مع عبارات ابن الجوزي نفسه في كتابه "تلبيس إبليس".
فقد ذكر ابن الجوزي أن وغلو الرافضة في حُبِّ علي عليه السلام، حَمَلَهم علی أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تَشِينُهُ، وقد ذكرت منها جملة في كتاب «الموضوعات». من بين هذه الأحاديث حديث "رد الشمس".
يبدو أن الخوانساري قد خلط بين "ابن الجوزي" و"سبطه" في هذا الشأن، حيث ينفي سبط ابن الجوزي في "تذكرة الخواص" رأي جده حول وضعية الحديث ويقول:
"إن قول جدي رحمه الله "هذا حديث موضوع بلا شك" دعوی بلا دليل، لأن قدحه في رواته الجواب عنه ظاهر لأنا ما رويناه إلا عن العدول الثقاة الذين لا مغمز فيهم وليس في إسناده أحد ممن ضعفه."
2. تورية ابن الجوزي في عبارته "من كانت ابنته في بيته" قد يكون أكثر من مجرد تقية من شيعي تجاه أهل السنة؛ بل قد يكون تقية حنبلية ذكية ضد تزايد قوة الشيعة. وهذا ما ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" حيث أشار إلى أن هذا السؤال تم طرحه عليه في زمن قوة الشيعة، وأن الإجابة كانت محاولة لإرضاء الطرفين.
1. في كتابه "تلبيس إبليس"، يذكر ابن الجوزي بعض العقائد الأساسية للشيعة ويصفها بأنها "تلبيس إبليس". كما يرى بعض الآراء الفقهية للشيعة على أنها بدع وخرافات تتعارض مع الإجماع.
2. كان ابن الجوزي يعارض الفاطميين علنًا، حيث يصفهم في كتاب "المنتظم" بـ"دولة آل عبيد" ويشير إلى الخليفة الفاطمي بـ"صاحب مصر". وعندما أزال صلاح الدين الأيوبي حكمهم (567 هـ) وأعيد ذكر اسم الخليفة العباسي على المنابر في مصر بعد حوالي 280 سنة، ألّف ابن الجوزي كتاب "النصر على مصر" وقدمَه إلى الخليفة المستضيء بالله.
ابن الجوزي، في إطار محاربته للبدع، ذهب إلى حدّ أنه أعلن من أعلى المنبر:
"بموجب أمر من الخليفة، تم منحني الإذن لمكافحة البدع. فإذا رأيتم شخصًا يهين الصحابة، حتى وإن كان من الوعاظ، فبلغوني، وسأقوم بتدمير منزله وسجنه إلى الأبد."
من السياق، يبدو أنه كان يعتبر "الشيعة" ضمن هؤلاء الذين يسيئون إلى الصحابة.
- ابن الجوزي يصرح في كتابه "المنتظم" أنه في عام 571هـ، بعد منع جميع الوعاظ من الخطابة، تم السماح لثلاثة فقط بالخطابة: ابن الجوزي من الحنبليين، والقزويني من الشافعية، وصهر أبي منصور، مظفر بن أردشير المروزي العبادي من الحنفية.
- يروي سبط ابن الجوزي أن جدّه عبد الرحمن (ابن الجوزي) كان يقدّم أحاديث على أنها نصوص على خلافة أبي بكر. بالإضافة إلى ذلك، كتب ابن الجوزي كتاب "آفة أصحاب الحديث" حول الأحاديث التي تتعلق بصلاة أبي بكر بالناس في أيام مرض النبي (صلى الله عليه و[آله] سلم)، والتي يعتبرها نصًا على خلافته.
مع ذلك، لا يمكن إنكار معرفته وإرادته تجاه علي (ع). فقد خصص فصلًا من كتابه "صيد الخاطر" بعنوان «الحق مع علي بن أبي طالب» لبيان المنزلة العالية له عند الرسول الأعظم (صلى الله عليه و[آله] وسلم)، ويقول: "العلماء متفقون على أنه كلما قاتل علي (ع)، كان على يقين من أن الحق معه". ويستشهد بحديث نبوي مشهور: «اللهم أدر الحق معه كيفما دار».
وجهة نظر ابن الجوزي بالنسبة إلی الصوفية
ابن الجوزي يوجه أقصى الانتقادات إلى الصوفية، وينسب إليهم أكبر قدر من البدع، لدرجة أنه خصص أوسع باب في كتابه "تلبيس إبليس" (الباب العاشر) بعنوان «تلبيس إبليس على الصوفية». ومع ذلك، قام بتأليف كتب منفردة ومستقلة في مناقب بعض العرفاء العظام مثل إبراهيم الأدهم، بشر الحافي، رابعة، سفيان الثوري، وفُضيل بن عياض. من هنا، يتضح أنه كان يميز بين "الصوفية" و"العرفاء العظام" في نظره.
في الباب العاشر من كتاب "تلبيس إبليس"، بعد مقدمة قصيرة، يكتب:
"لقد تم تناول موضوع 'الغناء' بتفصيل. فقد اعتبره البعض حراماً، واعتبره البعض الآخر مباحاً، بينما رأى فيه آخرون مكروهاً. ويجب أن نعلم أنه قبل أن يُطلق حكم الحُرمة أو الكراهة أو غيرها على شيء ما، يجب أولاً أن نعرف طبيعته. تُستخدم كلمة 'الغناء' في سياقات مختلفة، من بينها 'أغاني الحجاج في طريق الحج'، حيث يُقرأ فيها أشعار في مدح الكعبة ومقام إبراهيم، وقد يرافق ذلك أحياناً ضرب الطبل. وتعد هذه الأشعار مباحة، ولا تُثير الطرب ولا تُخرج الإنسان عن الاعتدال. وكذلك الأمر بالنسبة لما يُغنيه المحاربون، فهو من هذا النوع."
ثم يتابع النقاش بالإشارة إلى الروايات، وفي الحالات التي يبرر فيها الصوفيون أعمالهم باستخدام آيات وأحاديث، يقوم بنقد الروايات وتضعيف رواة هذه الأحاديث، مُبطلًا بذلك آرائهم.
مخالفة ابن الجوزي الأساسية مع ما يُعتبر بدعة دفعته إلى انتقاد "حافظ أبي نعيم" بسبب ما أورده في كتابه "حلية الأولياء". في كتابه "تلبيس إبليس" يكتب:
"حافظ أبو نعيم الأصفهاني صنف كتاب 'حلية الأولياء' للصوفية، وورد فيه ما هو غير لائق وقبيح عن التصوف، ولم يستحِ من اعتبار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن كبار الصحابة من الصوفية."
كما يكتب في مقدمة كتابه "صفة الصفوة"، الذي هو اختصار وتنقيح لكتاب "حلية الأولياء":
"من عيوب "حلية الأولياء" ذكر بعض الأمور عن الصوفية، التي لا يجوز القيام بها."
ابن الجوزي وعلم الكلام
ابن الجوزي يتحدث عن علم الكلام فيقول:
"لا شيء أكثر ضرراً على العامة من علم الكلام، تماماً كما يُمنع الأطفال من الاقتراب من النهر خوفاً من الغرق، ينبغي أن يُمنع الناس من الاستماع إلى المسائل الكلامية والغوص فيها. يكفي العامة أن يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه السماوية وأنبيائه واليوم الآخر، وأن يقتصروا على ما كان عليه السلف، ويعلموا أن القرآن كلام الله ومخلوق (أي مخلوق وليس أزلياً). الاستواء على العرش حقيقة (كما في قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى)، لكن كيفيته غير واضحة لنا. رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم كان يُكلف الناس بالإيمان فقط، ولم يتحدث الصحابة عن الجوهر والأعراض (وهما مصطلحان فلسفيان). فمن مات على طريقهم فهو مؤمن وبعيد عن البدعة. من لا يعرف السباحة ويخطو إلى البحر، فإن غرقه محتم."
رأْي ابن الجوزي حول الغزالي
ابن الجوزي، على الرغم من تقديره للمقام العلمي لبعض كتب الإمام أبي حامد محمد الغزالي (ت 505 هـ)، انتقده بسبب بعض محتويات كتابه "إحياء علوم الدين". كتب ابن الجوزي أنه في هذا الكتاب "تخلى عن قانون الفقه وألف كتابه وفق مذهب الصوفية".
ثم، بعد نقل قصة من ذلك الكتاب عن رجل يرتكب السرقة من أجل "محو الطموح وجهاد النفس"، كتب: "هذه الأمور قبيحة ومخالفة لأحكام الفقه"، وأضاف:
"توجد أمثال هذه الأقوال كثيراً في هذا الكتاب. لقد جمعت هذه الأخطاء في كتاب وسميته "إعلام الأحياء بأخطاء الإحياء"، وأشرت إلى بعضها أيضاً في كتابي الآخر "تلبيس إبليس"."
ثم بعد نقل رواية أخرى من كتاب "الإحياء" ونقده وتضعيفه، قال:
"يوجد الكثير من الأحاديث الموضوعة وغير الصحيحة في "الإحياء"، وسبب ذلك هو قلة اطلاع مؤلفه على رواية الحديث."
ابن الجوزي انتقد أبو حامد في أجزاء أخرى من مؤلفاته أيضاً.
من خلال دراسة انتقادات ابن الجوزي لمؤلفات الغزالي، يظهر أن المجالات الرئيسية لمخالفته هي ذات المجالات التي وجه فيها أبرز هجماته في كتابه "تلبيس إبليس"، أي التصوف والغلو الباطني. في "تلبيس إبليس" نقرأ:
"كتب أبو حامد الغزالي كتاب "الإحياء" وفق مذهب الصوفية، وملأه بأحاديث باطلة كان جاهلاً ببطلانها... وقال: "المقصود من الكوكب والشمس والقمر التي رآها إبراهيم النبي (ع) هي الأنوار التي تشكل حجاب الله، وأن الله لم يُرِد بها الأعيان المعروفة."
هذا القول من الغزالي ينتمي إلى نوعية أقوال الباطنية. كما كتب في كتابه "المفصح بالأحوال" أن "الصوفيين يشاهدون في يقظتهم الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتهم ويستفيدون منهم، ثم يرتقون من مقام مشاهدة الصور إلى مقامات لا يمكن التعبير عنها". إن قلة العلم بالسنة والأحاديث والإسلام هي التي تؤدي إلى مثل هذه الأقوال.
حدود العقل من منظار ابن الجوزي
يقول ابن الجوزي عن حدود العقل:
"يجب الاحتراز بالعقل من العقل."
ويشرح بأن محاولة معرفة الله بالعقل تؤدي في البداية إلى المعرفة بالحس وتؤدي إلى التشبيه. لذا، فإن "الاحتراز من العقل بالعقل" يعني أن نتأنى ونفهم أنه ليس جسماً ولا يشبه شيئاً. أحياناً ينظر العقل إلى أفعال الله سبحانه ويكتشف أموراً لا يتحملها العقل، مثل الآلام وذبح الحيوانات وتسليط الأعداء على أولياء الله ومصائب الصالحين، حيث لا يجد العقل المعتاد على العادات حكمة في ذلك.
"الاحتراز بالعقل عن العقل" في هذا السياق يكون على النحو التالي:
"ألم يثبت أن الله مالك وحكيم وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً؟ من خلال هذه المراجعة، يتضح للعقل أن حكمته في هذه الأفعال غير ظاهرة لنا. لذا، يجب علينا التسليم بحكمته. اعتراض الكثير من الناس، وأيضاً رأي العديد من العلماء الكبار، وعلى رأسهم إبليس (!)، هو من هذا النوع، وبذلك يقعون في هاوية الضلال. وكذلك قصة الخضر وموسى(ع) في القرآن الكريم (في سورة الكهف) تشير إلى نفس النقطة، وهي "الاحتراز بالعقل عن العقل"."
المجتمع من منظار ابن الجوزي
ابن الجوزي له آراء غريبة حول المجتمعات: فهو يقسم الناس إلى "عالم" و"جاهل"، ثم يفرّق الجهال إلى فئات ويحدد خصائص كل فئة.
ينتقد ابن الجوزي العلماء الذين يتخصصون في مجال واحد فقط، ويعتبر الذين ينغمسون في علوم مثل الكيمياء حمقى، ويشبه أعمالهم بالهذيان. ويضيف قائلاً:
"بعض العلماء والخطباء الذين يجدون صعوبة في تأمين قوتهم، يلجأون إلى بلاط السلاطين ليحصلوا على المال، بينما معظم ثروات الحكام تأتي بطرق غير مشروعة."
ويحذر أهل العلم من مصاحبة أصحاب السلطة، وينصحهم باتباع منهج رسول الله وصحبه وتابعيه، والابتعاد عن مجالسة العلماء الذين يهتمون بأقوال مختلفة، ويشجعهم على قراءة الكتب واستغلال الفرص والعمل بالعلم.
ابن الجوزي في كتابه "صَيد الخاطر" خصص فصلاً لـ"الفقر وآثاره" وحذر فيه من أن يقع العلماء والعبّاد الذين لا يمتلكون موردًا للعيش في براثن الملوك أو في خداع العامة. وقد مدح ابن الجوزي مجموعة من العلماء الذين يعيشون بقناعة من خلال الحرف اليدوية ونسخ الكتب، وفي الوقت نفسه، انتقد بعض علماء زمانه الذين لجأوا إلى بلاط السلاطين أو انخرطوا في خداع الناس بسبب شغفهم بالدنيا.
ابن الجوزي في الفصل السابع من كتابه "تلبيس إبليس" يذكر:
"الشريعة سياسة إلهية، ومحالٌ أن يقع في سياسة الإله خلل يحتاج معه إلی سياسة الخلق، ووفقاً للآية «... ما فَرَّطْنا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ...» (الأنعام: 38)، يُبطل رأي من يعتقد أن السياسة تتفوق على الشريعة. كما يعتبر ابن الجوزي أن القول بـ«المأمور معذور» (يعني الوزر علی الأمراء لا علی الوالي) غير صحيح، لأن الحاكم أحياناً قد يأمر بالظلم، والطاعة لأمره ستكون دعماً للظالم.
ويعتبر ابن الجوزي أن الولاية والحكم، بشرط مراعاة مصالح الرعية وتنفيذ العدالة والابتعاد عن الظلم، من أرفع المناصب بعد النبوة. ويعتقد أن إخلاص السلطان تجاه رعيته وعدله يسبب وفرة النعم، بينما العداء والظلم يسببان الجفاف."
ابن الجوزي يعتقد أن الرعية تنقسم إلى فئتين: الخاصة والعامة. يجب منح الخاصة عناية خاصة، لأنهم يمثلون أدوات الحكم، ويجب أن تكون هذه العناية دائمة، لأن الشخص الأمين قد يخرق الأمانة، والشخص الصادق قد يخدع. أما العامة، فيجب الحفاظ عليهم بين الخوف والأمل، ويجب معاملتهم بالرفق والحلم، ولا ينبغي الانتباه إلى ما يقولونه ضد بعضهم البعض، لأن الناس غالباً ما يخفون أغراضهم من خلال التظاهر والخداع.
ابن الجوزي لا يعتبر استخدام لقب "شاهنشاه" (ملك الملوك) جائزاً، ويشير إلى أن الروايات الصحيحة تدل على منع استعمال هذا اللفظ. عندما أُضيف لقب شاهنشاه إلى ألقاب "جلال الدولة أبوكاليجار" في عام 439 هـ، أمر الخليفة "القائم" بأن يُذكر هذا اللقب في الخطب. وعارض الناس هذا الأمر، وأثاروا الشغب ضد الخطباء. وعندما طلب من الفقهاء إبداء رأيهم في الأمر، قال معظمهم إن استخدام هذا اللقب جائز بناءً على القياس مع ألقاب مثل "قاضي القضاة" و"كافي الكُفاة"، معتبرين أن المقصود بـ "ملك الملوك" هو السيادة على ملوك الأرض. ومع ذلك، يؤيد ابن الجوزي في "المنتظم" رأي قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي، الذي كان من المقربين إلى "جلال الدولة" والذي لا يعتبر استخدام هذا اللقب جائزاً.
مكانة ابن الجوزي عند غيره من العلماء
لقد جعلت الشخصية العلمية والدينية لابن الجوزي منه موضوعًا للإشادة بألقاب مبالغة في بعض الأحيان، مثل: "شيخ العراق" و"إمام الآفاق"، و"الإمام الحافظ العلامة"، و"شيخ الوقت"، و"عالم العراق وواعظ الآفاق"، و"الإمام الأوحد"، و"الحبر المتكلم".
وقد وصفه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" قائلاً:
"كان ابن الجوزي معروفاً في كتابة التراجم بلا منازع. كان يتمتع بموهبة فائقة في النثر والشعر، حيث كان يعتني بالتفاصيل ويثير دهشة الناس، ويجلب الفرح والنشاط للقارئ، كما كان يطيل في كلامه."
"لم يظهر ولن يظهر مثلُه. كان رائد الوعظ، وله فنون متعددة بظاهرة جميلة وصوت حسن وأخلاق حميدة. كان بحراً في التفسير، وعلامة في السير والتاريخ، عالماً بالحديث وفنونه، فقيهاً على دراية بالإجماع والاختلاف، بارعًا في الطب، ويمتاز بالمهارة والفهم والذكاء والحفظ والتذكير والقدرة على التجميع والتصنيف، بأسلوب رصين وزخرف جميل. كان له من الأوصاف ما يستحق الثناء والاحترام من الجميع. لا أعرف أحداً كتب مثل ما كتب هو."
يقول ابن عماد الحنبلي في "شذرات الذهب":
"ابن الجوزي كان يكرس نفسه للموعظة منذ شبابه، وكان يتفوق على أقرانه. كان ينظم أشعاراً جميلة، ويكتب بخط يده أشياء لا يمكن وصفها، وكان يحظى بقبول واحترام غير مسبوق. وقد تكررت الأخبار بأن عدد الحاضرين في مجلسه كان يصل إلى مئة ألف شخص. وقد حضر الخليفة المستضيء عدة مرات إلى مجلسه من خلف الستار".
ويعتقد "ابن تغري بردي" (813-877 هـ) أن فضل ابن الجوزي وذاكرته وعلمه الواسع أعظم شهرة من أن يذكر في كتابه المسمى "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة".
يكتب ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية":
"كان ابن الجوزي من العلماء الذين تميزوا في كثير من العلوم، وكان لا نظير له في العديد منها. لقد ألف ابن الجوزي مؤلفات كبيرة وصغيرة يصل عددها إلى ثلاثمئة. كتب بيده نحو مئتي مجلد. كان في فن الموعظة لا نظير له، حيث لم يُعرف قبله أحد بمثل هذه الدرجة. كذلك كان في طريقته وأسلوبه، وفصاحته وبلاغته، وحلاوة كلامه، وتأثير موعظته، وغوصه في المعاني البديعة، وقدرته على تقريب المفاهيم الغريبة إلى الأذهان عبر الأمور الحسية، ونقله للكلمات والعبارات القصيرة التي تحمل معاني عميقة وقابلة للفهم السريع. كان بارعاً في جميع العلوم، وبخاصة في أنواع التفسير والحديث" (ر.ك: الغزولي، عبد العزيز سيد هاشم، ص157-159).
وفاة ابن الجوزي
توفي ابن الجوزي بعد آخر موعظة له في 17 رمضان 957 هـ. مرض بعد ذلك، وتوفي في ليلة الجمعة بين صلاة المغرب والعشاء في منزله في قطفتا، وهي حيّ في شرق بغداد.
تشير التقارير المتعلقة بجنازته إلى شخصيته الاجتماعية ونفوذه بين الناس. فقد أُغلِقَت الأسواق حدادًا على وفاته، وجاء الناس من بغداد لتشييع جنازته. كان حجم الحشود هائلًا لدرجة أن الجنازة لم تصل إلى قبره في مقبرة أحمد بن حنبل حتى وقت صلاة الجمعة، ولم يتمكن كبار المذهب من الصلاة عليه، ولم يتبقى من كفنه إلا القليل.
آثار ابن الجوزي
بدأ ابن الجوزي التأليف من سن الثالثة عشرة، ولأنه لم يتوقف عن الكتابة حتى نهاية عمره، فإن عدد آثاره كان كبيرًا للغاية. كما ساعده عقله المذهل في هذا المسعى.
يقول ابن الدبيثي:
"لا أعلم شخصًا كتب في مجالات علمية متنوعة أكثر من ابن الجوزي. رأيت كتيبًا خاصًا بأسماء كتبه. "
يقول ناجيه عبد الله إبراهيم:
"وقد قمت بتصحيح وتجهيز هذا الكتيب الذي تم تنظيمه على ورقتين للطباعة."
فيما يتعلق بكثرة آثاره (وتأليفه)، قيل:
"إذا قُسِّمَ عدد الكتيبات التي كتبها على أيام حياته، يتضح أنه كان يكتب تسعة كتيبات كل يوم، ومن هذه الناحية يمكن مقارنته بـ "أبو جعفر محمد بن جرير الطبري"، الذي قيل إنه كان يكتب أربعين صفحة في كل يوم."
كما كتب، جمع ابن الجوزي شظايا الأقلام التي كان يكتب بها أحاديث النبي صلى الله عليه [آله] وسلم. وعندما توفي، أوصى بأن تُستخدم تلك الشظايا لتسخين ماء غسل ميته، وتم تنفيذ وصيته. وقد كانت كمية الشظايا أكثر من اللازم!
وبالنظر إلى ما ذكره ابن الجوزي عن عدد مؤلفاته (2000 عمل) وإلى عدد المؤلفات التي بقيت منه (حوالي 384 عملًا)، كما توضح المصادر، يجب أن نُقرَّ بأن العديد من أعماله قد ضاعت بسبب الكوارث الطبيعية والحروب والحرائق.
نقد آثاره
على الرغم من المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها ابن الجوزي في مجال التأليف، لم يكن بمنأى عن النقد والانتقادات من قبل العلماء. قد يكون السبب الرئيسي لذلك هو غروره وتفاخره بنفسه. بالإضافة إلى ذلك، فإن انتقاداته اللاذعة لعلماء المذاهب الأخرى وأحياناً لزملائه من نفس المذهب قد أدت إلى بعض الانتقادات ضده. على أي حال، فإن أعماله تحتوي على العديد من الأخطاء التي يمكن أن تُعزى إلى كثرة تأليفه، وعدم مراجعة مؤلفاته بعد تأليفها، وميوله إلى التأويل في بعض المسائل، خاصةً في مواجهة شبهات المتكلمين وبيانها.
الذهبي ينقل عن "موفق عبداللطيف" قوله:
«توجد أخطاء كثيرة في مصنفات ابن الجوزي، لأنه لم يكن يعيد تنقيح كتبه بعد الانتهاء منها.»
ثم يضيف مؤيداً هذا الرأي:
"بسبب تركه مراجعة كتبه، نجد فيها أقوالاً لا أساس لها، ولقد كتب من المؤلفات ما لو عاش عمراً آخر، لما استطاع تصحيحها وإعادة كتابتها."
ابن رجب يقول:
«ابن الجوزي كان، بمجرد أن ينتهي من كتابة كتاب، يشرع في تأليف كتاب آخر دون أن يعيد تنقيح الكتاب الأول، وأحياناً كان مشغولاً بتأليف عدة كتب في وقت واحد، ولولا ذلك لما تراكمت هذه الكمية الكبيرة من المؤلفات.»
كما يكتب ابن الفرات:
«صاحب "المعجم" الذي كان قد قرأ كتاب "زاد المسير" لابن الجوزي عدة مرات، يشير إلى وجود العديد من الأخطاء في كتبه.»
مهارة وخبرة ابن الجوزي في مختلف التخصصات
إن مؤلفات ابن الجوزي في مختلف المجالات العلمية يجب أن تعتبر بمثابة ملخصات لأعمال الآخرين.كان ينقل من الكتب دون أن يكون قد تلقى علمًا من أستاذ واكتسب فيه الخبرة، ولهذا يُروى عنه أنه قال: «أنا جامع لا مصنف».
في مجال الحديث:
كتب ابن الجوزي عن إحاطته بالأحاديث:
"نظرًا لأن معظم انشغالي كان بالحديث والعلوم المتعلقة به، يمكنني تقريبًا أن أقول عن كل حديث يُعرض عليّ، إذا كان صحيحًا، أو حسنًا، أو مستحيلًا (أي موضوعًا)."
هذه العبارة تتناقض تمامًا مع ما ذكره علماء الحديث مثل الذهبي والسيوطي.
تشير بعض الأدلة أيضًا إلى أن ابن الجوزي لم يكن لديه معرفة واسعة بالتاريخ العام والأوضاع العالمية في زمنه. على سبيل المثال، في كتابه المعروف بـ "صيد الخاطر"، كتب:
"بعد أن هلك قيصر (في الفتوحات الإسلامية الأولى)، لم يظهر قيصر آخر إلى السلطة!"
في الشعر:
يذكر "عماد الدين الكاتب" نقلاً عن خمسة نماذج من أشعار ابن الجوزي في قواف مختلفة، ويقول:
"لديه تعبيرات مصطنعة وإشارات بديعة وذات طابع جذاب، ويولي اهتمامًا كبيرًا بصناعة التجنيس. وقد كتب بعض المحققين أن مجموع أشعاره يتجاوز العشرة مجلدات. يمدح ابن رجب أشعاره لجمالها، ثم ينقل أبياتًا أخرى لم يذكرها "أبوشامة".
ابن الجوزي نفسه نقل في كتابه "المنتظم" قصيدة في مدح الخليفة المستضيء، تتألف من 25 بيتًا بقافية "-ان".
نُسبت إلى ابن الجوزي ثلاثة كتب في الشعر: "إحكام الإشعار بأحكام الأشعار"، "ما قتله من الأشعار"، و"المختار من الأشعار".
قائمة آثاره
- المنتظم في تاریخ الملوك و الأمم؛
- تلبيس إبليس؛
- زاد المسير في علم التفسير؛
- آفة أصحاب الحديث؛
- أخبار أهل الرسوخ؛
- دفع الشبهة التشبيه و الرد على المجسمة؛
- بستان الواعظين و رياض السامعين؛
- روح الأرواح؛
- رؤوس القوارير؛
- صيد الخاطر؛
- عجيب الخطب؛
- لفتة الكيدالي [فى] نصیحة الولد؛
- ياقوتة المواعظ و الموعظة؛
- تنبيه النائم الغمر على حفظ مواسم العمر؛
- الطب الروحاني؛
- تقويم اللسان؛
- أخبار الظراف و المتماجنين؛
- أخبار النساء؛
- الأذكياء؛
- تلقيح فهوم أهل الأثر؛
- الحمقى و المغفلين؛
- الذهب المسبوك فى سير الملوك؛
- ذم الهوی؛
- صفوة الصفوة؛
- مناقب أحمد بن حنبل؛
- مناقب الحسن البصري؛
- مناقب عمر بن الخطاب أو تاريخ عمر بن الخطاب؛
- مناقب عمر بن عبد العزيز أو سيرة عمر بن عبد العزيز؛
- ملتقط الحكايات؛
- مولد النبي؛
- الوفا في فضائل المصطفى(ص).
مخطوطاته
في كتابه "مؤلفات ابن الجوزي"، يذكر عبد الحميد العلوجي من بين 384 أثراً لابن الجوزي، 139 كتاباً باعتبارها مخطوطات، ويورد أسماء المكتبات التي تُخزّن فيها هذه المخطوطات. وقد صُنِّفت هذه المخطوطات في موضوعات مختلفة على النحو التالي:
- القرآن وعلومه: 10 آثار
- الحديث، رجال الحديث وعلومه: 14 أثراً
- المذهب، الأصول، الفقه والعقائد: 12 أثراً
- الوعظ، الأخلاق والرياضات: 72 أثراً
- الطب: 3 آثار
- الشعر وعلم اللغة: أثران
- التراجم (السير الذاتية) العامة: 9 آثار
- التراجم (السير الذاتية) الخاصة: 9 آثار
- الحكايات والقصص: 5 آثار
- التاريخ: 1 أثر
- الجغرافيا: أثران
التعريف ببعض آثاره
من بين الآثار الباقية لابن الجوزي، التي ستُذكر لاحقاً، تعتبر "المنتظم" و"تلبيس إبليس" ذات أهمية خاصة، وسنتناول في هذا السياق دراستهما.
1- "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم":
يُعَدُّ هذا الكتاب أهم أعمال ابن الجوزي في مجال التاريخ. يبدأ الكتاب بخطبة تبدأ بعبارة "الحمد لله الذي سبق الأزمان وابتدعها والألوان واخترعها..."، ثم ينتقل المؤلف إلى إقامة دليل على وجود الله تعالى، ويُتابع بذكر أولى المخلوقات، ويستعرض تاريخ العالم من بدايته حتى عصر رسول الله (ص)، ثم من بعد ذلك حتى عام 574 هـ، خلافة المستضيء، 566-575 هـ
يُقدِّم ابن الجوزي الأحداث التاريخية قبل الهجرة وفق أبواب، وبعد ذلك يسردها حسب السنوات. في تاريخ كل سنة، يورد الأخبار المهمة والأحداث التي يعتبرها مثيرة أو مدهشة. ثم ينتقل إلى ذكر وفيات الشخصيات البارزة، حيث يذكر أسماءهم - أحياناً مع شرح مختصر لأحوالهم وأعمالهم - وفق الترتيب الأبجدي.
"ابن القفطي" في حديثه عن علم التاريخ وكتب التاريخ، اعتبر كتاب "المنتظم" لابن الجوزي أحد المكملات المتتالية لتاريخ الطبري، حيث أن كل واحد منها يُكمل الكتب السابقة عليه. وقال: "استمر ابن القادسي في ذكر الأحداث بعد "المنتظم" حتى عام 616 هـ وأكملها."
في "المنتظم"، يتناول ابن الجوزي الأحداث المتنوعة بأسلوب مشابه لما نراه في الصحف في عصرنا.
الأحداث السياسية المهمة، المؤامرات، أخبار الحروب، الأخبار الثقافية (مثل إقامة مجالس الوعظ والخطابة والمناظرات، تأسيس المدارس وذكر أسماء المدرسين والمعيدين – أي مساعدي المدرسين)، المنازعات المذهبية والكلامية، تاريخ بدء وانتهاء البناءات، القتل، السرقة، المكائد، الحرائق، الأحداث العجيبة، أخبار الخليفة (الصيد، الرحلات، الأمراض...)، تقارير عن بعض الأسعار في أوقات الغلاء والرخص، المجاعات، انتشار الأمراض، الكوارث الطبيعية (فيضان الأنهار، الأمطار الغزيرة، البَرَد الكبير...)، تقارير عن أحر يوم في السنة، أخبار الإفطار في رمضان والضيافات المناسبات الاجتماعية المختلفة، تقارير عن عمليات الإعدام (للسارقين، القتلة، المخالفين...)، وغيرها من الأخبار، حتى أنه إذا تحقق صحة هذه التقارير، يمكن اعتبار هذا الكتاب، خصوصاً المجلدين التاسع والعاشر منه، مرآة تعكس بدقة عصر مؤلفه، مما يجعله ذا أهمية كبيرة في الدراسات الإنسانية، خصوصاً في العلوم الاجتماعية.
2- تلبيس إبلیس: يكتب ابن الجوزي في مقدمة هذا الكتاب القصيرة:
"فبعث الله سبحانه و تعالی محمدًا (ص) فرفع المقابح، و شرع المصالح، فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره سالمين من العدو وغروره. فلمّا انسلخ نهار وجودهم أُقبلت أغباش الظلمات، فعادت الأهواء تنشئ بدعًا، وتضيق سبيلًا ما زال متسعًا، ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعًا، ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف، وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل، فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح.
فرأيتُ أن أحذر من مكايده، وأدل علی مصايده، فإن في تعريف الشر تحذيرًا من الوقوع فيه."
ابن الجوزي ألف هذا الكتاب في ثلاثة عشر بابًا، وقد قُسِّمَت بعض أبوابه إلى فصولٍ وأجزاءٍ فرعية. نظرًا لأن فصول هذا الكتاب تعكس إلى حد كبير آراء ابن الجوزي ومعتقداته، فإن الإشارة إلى المواضيع الرئيسية في هذه الأبواب والفصول تساهم في فهم شخصيته بشكل أعمق.
الباب الأول: في الأمر بلزوم السنة والجماعة
في هذا الباب، يوضح ابن الجوزي أهمية الالتزام بالسنة والجماعة استناداً إلى روايات العامة (روايات أهل السنة)، ويبين لزوم اتباع "السنة" وفقاً لما يتبناه أهل السنة. كما يشير إلى حديث الافتراق ويعرف "أهل الجماعة" بأنها الفرقة الناجية.
الباب الثاني: في ذم البدع والمبتدعين
في هذا الباب، يقسم ابن الجوزي المبتدعين إلى ستة مجموعات رئيسية، ويصنف كل مجموعة رئيسية إلى اثنتي عشرة مجموعة فرعية.
ووفقًا له فإن المجموعات الرئيسية من المبتدعين هي: الحرورية، القدرية، الجهمية، المرجئة، الرافضة، والجبرية.
من بين المجموعات الفرعية للرافضة، يشير إلى جماعتين: الشيعة والإمامية. ويعَرِّف الشيعة بأنهم يعتقدون أن عليًّا (ع) هو وصي النبي صلى الله عليه و[آله] سلم وولي الأمر من بعده، وكفر [وارتدّ] الأمة التي بايعت غيره. بينما يعتقد الإمامية أنه لا يمكن أن يخلو العالم من وجود إمام من ذرية الحسين (ع)، وأن الإمام يتعلم من جبرائيل، وإذا مات، يتم تعيين شخص مثله خليفةً له.
الباب الثالث: في التحذير من فتن إبليس ومكايده
في هذا الباب، يستند ابن الجوزي إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية ليشرح خداع إبليس وحيله.
يقول: "كل إنسان له شيطان، والشيطان يجري في الإنسان كما يجري الدم." ثم يخصص فصلاً لضرورة اللجوء إلى الله من شر الشيطان.
الباب الرابع: في معنى التلبيس والغرور
وفقًا لرأي ابن الجوزي، التلبيس هو إظهار الباطل في صورة الحق، والغرور هو نوع من الجهل الذي يُظهر الخطأ صوابًا والقبيح جميلًا.
الباب الخامس: في ذكر تلبيسه في العقائد والديانات
في هذا الباب، يتناول ابن الجوزي بطلان معتقدات السوفسطائيين، الدهريين، الطبائعيين (معتقدي العناصر الأربعة)، الثنويين، الفلاسفة وأتباعهم، وعباد الأجرام السماوية، وعبدة الأصنام، وعبدة النار والشمس والقمر، وأهل الجاهلية، منكري النبوة، اليهود، النصارى، الصابئة، المجوس، المنجمين، منكري البعث والمؤمنين في التناسخ.
ثم يبين كيفية خداع الشيطان في عقائد الأمة الإسلامية، ويتحدث في هذا السياق عن التقليد والاجتهاد والمسائل المتعلقة بهما، ويتناول علم الكلام ونقد المتكلمين. كما يصف كيفية خداع إبليس للخوارج، والرافضة، والباطنيين (مثل الإسماعيلية، السبعية، البابية، المحمرة، القرامطة، الخُرَّمية، والتعليمية).
الباب السادس: في ذكر تلبيسه على العلماء في فنون العلم
في هذا الباب، يتناول ابن الجوزي كيف يقوم إبليس بخداع العلماء في مختلف المجالات العلمية، مثل القرّاء، المحدثين، الفقهاء، أهل الجدل، الوعاظ، المتحدثين في القصص، اللغويين، الأدباء، الشعراء، والعلماء البارزين.
الباب السابع: في ذكر تلبيسه على الولاة والسلاطين
الباب الثامن: في ذكر تلبيسه على العباد في فنون العبادات
في هذا الباب، يوضح ابن الجوزي كيف يُفْتَن العباد في جوانب مختلفة من العبادات مثل التطهير، الوضوء، الأذان، الصلاة، قراءة القرآن، الصوم، الحج، الجهاد، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الباب التاسع: في ذكر تلبيسه على الزهاد
يتناول ابن الجوزي في هذا الباب كيف يُفْتَن الزهاد والعابدون بطرق متنوعة مثل ترك الدنيا، الوم العلماء، الإعراض عن تعلم العلم، ترك المباحات، ارتداء الصوف، حب الشهرة (والطموح)، المظاهر الزاهدية، الامتناع عن الشراء، الظهور بشكل لافت، العجب بالعبادة، اتباع الأوهام والخيالات على أنها حقائق، وما إلى ذلك من أساليب خداع إبليس.
الباب العاشر: في ذكر تلبيسه على الصوفية
في هذا الباب، يصف ابن الجوزي الصوفية كفئة من الزهاد يتميزون بصفات معينة وأحوال خاصة تميزهم عن غيرهم من الزهاد. ثم يستعرض أسباب تسمية هذه الجماعة بالصوفية والمتصوفة، ويعالج موضوعات تتعلق بانتقاده لمعتقداتهم.
الباب الحادي عشر: في ذكر تلبيسه على المتدينين بما يشبه الكرامات
الباب الثاني عشر: في ذكر تلبيسه على العوام
الباب الثالث عشر: في ذكر تلبيسه على جميع الناس بتطويل الأمل(راجع: عالم زاده، هادي، ج 3، ص 272-277).
"صِفة الصَّفوة": في مقدمة كتابه، يوضح ابن الجوزي أن هذا العمل قد أُلف لتوثيق حياة الصالحين والنُبلاء بهدف تجنب النقائص والأخطاء التي ذُكرت في كتاب "حلية الأولياء" لأبي نعيم الأصفهاني. يتناول الكتاب سيرة النبي محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ويعرض أحواله وآدابه. ثم يسلط الضوء على الصحابة والصحابيات المعروفين بالعلم والزهد والعبادة، وبعد ذلك يتناول التابعين ومن جاء بعدهم وفقًا لطبقاتهم.
"الوفاء بأحوال المصطفی": في هذا العمل، يقدّم ابن الجوزي تفصيلًا شاملاً عن حياة رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، متناولاً كل ما قد يخطر ببال الإنسان ويرغب في معرفته عن النبي، من صفات وأخلاق، ودعوة وجهاد، وظروف عائلية، وسلوك مع الجيران والناس وغير ذلك. يتميز الكتاب بتصنيفه الفريد، حيث يتألف من 537 بابًا ضمن 39 قسمًا.
"صَيد الخاطر": هذا الكتاب هو ملخص لأفكار وتجارب ابن الجوزي في حياته، وقد كتبه في أواخر عمره ليعبر عن أفكاره وتجربته بلغة سهلة، وعبارات جذابة، وأسلوب بليغ. لا يتبع الكتاب ترتيبًا محددًا، ويشمل موضوعات متعددة مثل العلم والعلماء، القلب والنفس والعقل، العبادة والعابدين، الحياة الآخرة والاستعداد لها، علم الكلام، الأسرة والمجتمع، الوقت وأهميته، وملاحظات عن نفسه. (راجع: الغزولي، عبد العزيز سيد هاشم، ص 148-149).
مصادر المقال
- عالمزاده، هادی، "ابن الجوزي، أبو الفرج"، دائرةالمعارف بزرگ اسلامی (دائرة المعارف الإسلامية الكبری)، تحت إشراف كاظم موسوي بجنوردی، طهران، مركز دائرةالمعارف بزرگ اسلامی (مركز دائرة المعارف الإسلامية الكبری)، الطبعة الثانية، 1995 م.
- الغزولي، عبدالعزيز سيد هاشم، ابن الجوزي، الإمام المربي، والواعظ البليغ والعالم المتفنن، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1420هـ -2000م.